الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله: {إنكم} للمكلفين جميعًا فيصح الاستثناء المتصل مطلقًا أي تذوقون العذاب الأليم. قوله: {معلوم} قيل: أي معلوم الوقت كقوله: {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًا} [مريم: 62] وقيل: معلوم الصفة لكونه مخصوصًا بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل: أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه {فواكه} فقيل: إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل: أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبدًا كان الطعام أولى بالحضور. وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال: {وهم مكرمون} إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال: {في جنات النعيم على سرر متقابلين} وقد مر في الحجر. ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة: لا يسمى الإناء كاسًا إلا إذا كان فيها خمر، وقد تسمى الخمر نفسها كأسًا.عن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر.وكذا في تفسير ابن عباس: والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال: عان الماء يعين إذا ظهر جاريًا قاله ثعلب. وقيل: فعيل من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس: قال الحسن: خمر الجنة أشدّ بياضًا من اللبن.{ولذة} إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال: غاله يغوله غولًا إذا أهلكه وافسده، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله: {ولا هم عنها ينزفون} أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال: نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله: {ولا هم عنها ينزفون} هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار. والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله: {وعندهم قاصرات الطرف} أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله: {عربًا} [الواقعة: 37] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها، وذلك لأن فيها بياضًا يشوبه قليل من الصفرة، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور.ثم عطف على قوله: {يطاف} قوله قوله: {فاقبل} وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار. ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار. والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم:
وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية {قال قائل منهم} أي من أهل الجنة {إني كان لي قرين} جليس أو شريك في الدنيا {يقول أئنك لمن المصدقين} أي بيوم الدين {أئنا لمدينون} لمجزيون من دان يدين إذا جزى. وقيل: لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه الحديث «الكيس من دان نفسه» وعن بعضهم: اراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله: {واضرب لهم مثلًا رجلين} [الآية: 32] {قال} يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة {هل أنتم مطلعون} إلى النار اي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها. عن ابن عباس: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار {فاطلع} على أهل النار فرأى قرينه {في سواء الجحيم} وسطها {قال} لقرينه {تالله إن كدت لتردين} أن مخففة واللام فارقة. والإرداء الإِهلاك، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي. والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم، نظيره ما مر في قصة صالح {فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم} [الأعراف: 79] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال: {ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين} في النار مثلك أطلق إطلاقًا لأن الإِحضار يستعمل في الشر غالبًا ولاسيما في اصطلاح القرآن. وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قرينًا له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلًا {افما نحن بميتين} وفيه قولان أحدهما: إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم، أو يسالون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير: نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب.وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثًا بنعمة الله سبحانه واغتباطًا بحاله، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه. وايضًا إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخًا له وليحكيه الله فيكون لنا لطفًا وزجرًا. احتج نفاة عذاب القبر بقوله: {إلا موتتنا الأولى} فإنه يدل على أن الإنسان لاي موت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلًا مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله: {إن هذا لهو الفوز العظيم} يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعًا له وتوبيخًا وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقًا لهم، وكذا قوله: {لمثل هذا فليعمل العاملون} ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الزرق {خير نزلًا أم شجرة الزقوم} قال جار الله: أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال: طعام كثير النزل. فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم. ويمكن أن يقال: النزل ما يقدّم للضيف، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك. وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة. وقال غيره: إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله: {إنا جعلناها فتنة للظالمين} وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله: {فزادتهم رجسًا إلى رجسهم} [التوبة: 125] وقيل: إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله: {يوم هم على النار يفتنون} [الذاريات: 13] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمدًا يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر. وذكروا أيضًا أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال: يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال: تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم.وذكر بقية أوصاف الشجرة منها {إنها تخرج في أصل الجحيم} اي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر. ومنها {طلعها كأنه رؤوس الشياطين} قال جار الله: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلًا ولونًا.وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى: إنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس أليه، وإذا كان الشيطان كله مستقبحًا فراسه كذلك، وتشبيه الثمرة براسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم. الثاني أن الشيطان هاهنا نوع من الحيات تعرفها العرب، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح. الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين. الرابع قال مقاتل: رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة. ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضًا يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلًا يشبه به. ثم علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله: {فإنهم لآكلون منها} أي من طلعها {فمالؤن منها البطون} أي بطونهم إما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون بابًا من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة، وقد وصفه الله سبحانه في قوله: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الكهف: 29] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة {ومزاجه من تسنيم} [المطففين: 27] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديدًا أو شرابًا حارًا ممزوجًا بما هو أحر وهو الحميم. ومعنى ثم التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلًا للتعذيب، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب ابشع من الطعام بكثير. قال مقاتل: معنى ثم في قوله: {ثم إن مرجعهم} أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار. وقيل: هو كقولهم فلان يرجع إلى مال ونعمة أي هو فيها. وقيل: ثم لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار.وقيل: ثم مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم. ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد. والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقًا ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى. ثم اراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إجمالًا بقوله: {ولقد ضل قبلهم} أي قبل قومك {اكثر الأوّلين} ثم استثنى من قوله: {ولقد ضل} أو {من المنذرين} المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة.ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلًا وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أبًا ثانيًا ونداؤه في قوله: {رب انصرني بما كذبون} [المؤمنون: 26] أو قوله: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] واللام الداخلة على {نعم} جواب قسم محذوف أو لبتداء، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء، وفيه وفي فاء التعقيب في {فلنعم} دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقرونًا بإجابة. والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع إلياس من إيمانهم وهذا أقرب. وفي قوله: {هم الباقين} بصيغة الحصر دلالة على أن كل ما سواه وسوى ذريته فقد فنوا. روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذرّيته وهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان شرقًا وغربًا، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي {سلام على نوح} ومعنى {في العالمين} أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة. ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسنًا وهذا جزاء كل محسن. ثم بين أن إحسانه كان مسبوقًا بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسنًا. وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال: {ثم أغرقنا الآخرين} أعاذنا الله من الإغراق والإِحراق وجعل فلكنا فلك نوح وسفرنا متضمنًا للنصر والفتوح. اهـ. .قال الخطيب الشربيني: سورة الصافات:مكية.وهي مائة واثنان وثمانون آية.وثمان مئة وستون كلمة.وثلاثة آلاف وثمان مئة وستة وعشرون حرفًا.{بسم الله} الذي له الكمال المطلق {الرحمن} الذي من رحمته العدل في الدارين {الرحيم} الذي لا يدنو من جنابه نقص واختلف في تفسير قوله تعالى: {والصافات صفا} أي: وهو ترتيب الجمع على خط، فقال ابن عباس والحسن وقتادة: هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة، وعن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا تصفون كصفوف الملائكة عند ربهم قلنا: وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال: يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف». وقيل: هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد، وقيل: هي الطير تصف أجنحتها في الهواء لقوله تعالى: {والطير صافات}.واختلف أيضًا في قوله تعالى: {فالزاجرات زجرًا} فأكثر المفسرين على أنها الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة: هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح، واختلف أيضًا في قوله تعالى: {فالتاليات ذكرًا} فالأكثر أيضًا، أنهم الملائكة عليهم السلام يتلون ذكر الله تعالى، وقيل: هم جماعة قراء القرآن.فإن قيل: قال أبو مسلم الأصفهاني: لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة؛ لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة عليهم السلام مبرؤون من هذه الصفة. أجيب بوجهين:الأول: أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال: جماعة صافة ثم تجمع على صافات.والثاني: أنهم مبرؤون من التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.تنبيه:اختلف الناس هاهنا في المقسم به على قولين:أحدهما: أن المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، ففي ذلك إضمار تقديره ورب الصافات ورب الزاجرات ورب التاليات، ومما يؤيد هذا أنه تعالى صرح به في قوله تعالى: {والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها}.والثاني: وعليه الأكثر أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل، وأما النهي عن الحلف بغير الله تعالى فهو نهي للمخلوق عن ذلك، وأما قوله تعالى: {وما بناها} فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ولو كان المراد بالقسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد، وهو لا يجوز، وأيضًا لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء، التنبيه على شرف ذواتها.وقال البيضاوي: أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب باعتبارها تفيض عليهم أنوار الهيبة منتظرين لأمر الله الزاجرين، للأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخبر، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين لآيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطواف الأجرام المترتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أو بنفوس العلماء الصادقين في العبارات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصادقين في الجهاد الزاجرين للخيل والعدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو، وقال الزمخشري: الفاء في، فالزاجرات والتاليات إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله:أي: الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك: خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها كقوله: «رحم الله المحلقين فالمقصرين»، والبيضاوي ذكر هذا حديثًا قال شيخنا القاضي زكريا: لم أره بهذا اللفظ ا.ه، لكنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وقرأ أبو عمرو وحمزة بالإدغام فيما ذكر، والباقون بالإظهار؛ وجواب القسم.
|